الاستهلاكية: هل تسبب مشكلة في تربية الأطفال؟

بقلم سمر شنودة

تختلف أنماط الاستهلاكية من عصر لآخر ومن بيئة لأخرى. كما أنها تتأثر بدخل الفرد مقارنة بالجماعة التي يعيش فيها. فسلوك فرد غني نسبياً في جماعة فقيرة تجعله يميل إلى امتلاك سلع رفاهية أكثر من مثيله في مجتمع معتدل. وظروف مجتمعاتنا العصرية تشجع النزعة الاستهلاكية، ويساهم في ذلك بقدر كبير تطور الإعلام التجاري، فيحصل الأطفال - مثلهم مثل البالغين - على معلومات عن السلع المتوفرة في السوق، مما يكسب الطفل استقلالية أكبر في الأشياء التي يريد أن يحصل عليها، وتضيف من قوته الشرائية حتى ولو بطريقة غير مباشرة.

هذا التغيير يضع أي شخص معني بالتربية، أمام عدة مفارقات، أي المواقف يفضل:

  • استقلالية الطفل أم تبعيته لآراء البالغين؟
  • اختيار ما هو ضروري أم بعض الرفاهيات؟ (وهذه الحالة من يحدد الفرق بين الاثنين: الطفل أم المُرَّبي)
  • تأقلم الطفل على البيئة الثقافية التي ينمو داخلها أم تهميشه؟

هذه المفارقات تجعلني أعي بأن موقفي الشخصي من الاستهلاك - كمثل باقي الناس - غير محسوم، فهو يتطور بتطور كثير من أوضاع حياتي كوضعي الاجتماعي واحتياجاتي وأحياناً حالتي النفسية... فقضية أن أكون أو أن أمتلك هي قضية وجودية قبل أن تكون اختيارات عملية!

إن موضوع الاستهلاك موضوع شائك ومثير للصراع سواء بالنسبة لنا كبالغين أو بالنسبة لأطفالنا، ولا مهرب من طرحه داخل أسرنا!

فبدلاً من الصراع مع المفارقات وتبني أسلوب المنع، نستطيع أن نتبنى قيماً إيجابية فيكون موقفنا -بدلاً من أن نعارض على طول الخط- هو أن نعرض بدائل. وهذا المقال يعرض بعضاً من هذه البدائل.

 

1.           تذوق الأشياء البسيطة

مفهوم الفرح والاستمتاع لا يرتبط في ذهن الأطفال حتمياً بالشراء والإنفاق. فهم يتذوقون أشياء عديدة بسيطة وصغيرة. وربما نستطيع في أسلوب تربيتنا أن نبرز ونطور هذا البعد. فعلينا أن نتساءل أولاً عن مدى احترامنا لممتلكاتهم الصغيرة (أغطية الزجاجات – القواقع – الأوراق ) ومشاركتهم الاندهاش أمام هذه الأشياء؟

يعرض علينا الإعلام التجاري صوراً لامعة من التسلية والاحتفال قد نحتفظ ببعض مظاهرها. ولكن يحتاج الأطفال أيضاً إلى وجود "طقوس عائلية" تدخل البهجة وتخرج عن الروتين. فما هي طقوسنا العائلية في الاحتفال؟ هل نهتم ببعض التفاصيل الصغيرة؟ وهل نشترك كعائلة في تحديد هذه الطقوس ونعدها ونمارسها معاً؟ ما هي الأوقات المجانية التي ننعم فيها معاً كعائلة – كالمشاركة في أعمال يدوية، أو سهرة لعب أو غناء، أو فيلم نشاهده معاً - أشياء أخرى عديدة يمكن أن نفرح من خلالها دون اللجوء إلى استهلاك من نوع ما يعرضه الإعلام التجاري؟ فهل نستطيع أن نُدخل هذه الأوقات ضمن برنامجنا الأسبوعي أو الشهري أم أنها متروكة للصدفة؟

2.           المشاركة:   أخذ وعطاء

في بلد فقير مثل مصر، قد تكون بعض مظاهر الاستهلاك مستفزة لمن لا يملك، أكثر منها في بلدان أخرى أغنى، فما قد يكون عادياً من مظاهر الاحتفال في بلد آخر قد يكون غير مقبول في بلد فقير (تذكر مثل الرجل الغني ولعازر). في داخل الأسرة الواحدة تخلق الاستهلاكية نوعاً من الحاجز الثقافي الذي يهمش الأكثر فقراً. ويختبر أطفالنا مثل هذه المواقف أحياناً وهم في موقف الفقير المُحرَج وأحياناً أخرى في موقف الغني المحتار.

ولكن المشاركة: أخذ وعطاء! لا يكفي أن نقول للطفل شارك فيشارك. المشاركة تتطلب منه أولاً مسيرة من الوعي والإدراك لملكياته أبعادها وحدودها: هذا الشيء ملكي وهذا ملك لشخص آخر. يتعلم الطفل المشاركة أولاً في احترام الآخرين لملكياته الخاصة وفي نفس الوقت اختباره بأن المشاركة قد تجلب سعادة أكثر. يكتشف أيضاً أن أملاكه الخاصة وأملاك غيرة ليست مادية فحسب: فهو يمتلك وقتاً، ومواهب، ...

يتعلم أيضاً أن المهم في المشاركة هي العلاقة المتوازنة التي تولد فرحاً للطرفين والتي قد تتطلب بعض التضحيات. يتعلم الطفل المشاركة عن طريق احترام الآخرين لملكياته الخاصة وفي نفس الوقت اختباره بأن المشاركة  قد تجلب له سعادة أكثر. ويتحقق هذا من خلال مواقف يومية كأن نصبر على أكلة لذيذة فنأكلها سوياً بدلا من كل واحد وحده. للملابس أو الألعاب الصغيرة فنعطيها لشخص آخر، أو أن نشكر شخصاً ما على ما أعطاه لنا.

3.       الاختيار: استمتاع أكثر بما هو متاح

  "كل شيء ممكن ولكن ليس كل شيء يبني". المثل الذي يوضح بالنسبة لي هذا المبدأ هو مثل الأجهزة  الإلكترونية، فهي تزود يوماً بعد يوم بإمكانيات عديدة ولكن ما هي نسبة استغلالنا لهذه الإمكانيات؟ يقولون مثلاً أن أغلب مستخدمي برنامج ’Microsoft Word  ’ على الكمبيوتر لا يعرفون أكثر من 20 % من إمكانياته ولا يحتاجونها أصلاً. وأعتقد أن هذا المثل ينطبق على أشياء عديدة في حياتنا. فللاستفادة  من شيء ما، وجب الاستعداد له.

وينطبق هذا على أشياء أخرى عديدة: فليس كم الأكل على مائدتي، ولا الملابس في دولابي، ولا شرائط الموسيقى التي أمتلكها، أو عدد الكتب في مكتبتي هى التي تدخل البهجة إلي. بل الأسلوب الذي اتبعته لكي أستطيع أن أستفيد من كل هذا  .   فإذا كانت قد وضعت مثلاً الموسيقى في أولوياتي، أستطيع أن أوفر لها المساحة اللازمة في حياتي: وقت، ومكان، ونقود، حتى لو كان هذا على حساب شيء آخر! وهذا اختيار.

إن تربية الاختيار تتطلب ترتيباً، تفكيراً، النظر إلى الاحتياجات، تحديد الأولويات، اكتشاف أعمق للنفس. أي استهلاك موجه. إنها ليست دعوة لتعقيد الأمور بل على العكس إلى الاستمتاع أكثر بما هو متاح. والتربية على الاختيار تأتي بالممارسة اليومية في تفاصيل من الحياة اليومية: كم من الوقت للتليفزيون أو الكمبيوتر؟ متى وكم من الأكل غير المغذي سأتناوله؟ من بين العديد من الإمكانيات المتاحة، تليفزيون مفتوح، راديو يغني، لعبة على الأرض، ماذا سأختار؟

إن الاستهلاكية موضوع عرض وطلب. يتعلم أطفالنا أن يتذوقوا الأشياء التي نستمتع بالقيام بها معهم. وإن لم نعرض لهم طرقاً أخرى للاستمتاع إلا التي يعرضها عليهم الإعلام التجاري فسيجدون صعوبة في أن يتخلصوا من كل هذه الصور التي تلاحقهم. ولحسن الحظ، لسنا وحدنا في حياة أطفالنا، فهناك أنماط أخرى عديدة للحياة بوسعها أن تلهمهم. ولكن من أجل هذا علينا أن نوجه السؤال لأنفسنا أولاً: كيف نستمتع وبماذا؟ كيف يمكنني أن أشارك هذه المتعة مع عائلتي؟ وبالعكس، كيف يستمتع أطفالي (كل واحد فيهم)؟ ألا يمكنني أن أكرس بعض الوقت لمشاركتهم هذه المتعة؟

نحن بالتأكيد ملاحقون كل يوم بكم من الضعوط التي تضطرنا للحلول العملية البراجماتية والقرارات المنفردة، فهذا يوفر الجهد والوقت على المدى القصير. ولكن إن فكرنا في الاختلاف الذي ربما يحدث في حياة أطفالنا على المدى الأبعد سيعطينا هذا طاقة ودفعة جديدة.

إن الله هو مصدر حياتنا. وهو يعطينا قبل أن نسأله. فكيف نرجع في صلاتنا اليومية مع أطفالنا إلى ما عشناه: اليوم ما هي النعم التي نلتها من الله؟ ماذا تذوقت اليوم؟ ماذا أحببت؟ يقول المسيح "أنتم ملح الأرض". فما هي الأشياء التي أضافت طعماً إلى حياتي اليوم: زيارة لأحد الأصدقاء؟ حمام دافئ؟ وقت مريح في حضن أبي؟ أكلة لذيذة؟ موقف الحمد والشكر أمام نعم الله يساعدنا ويساعد أطفالنا على اكتشاف الأسباب الحقيقية لفرحنا وانطلاقنا.

 

أسئلة للتفكير:

1-       هل الموضوع مطروح علىّ؟ كيف أعيشه؟

2-       ما هي الأشياء التي أستمتع بها؟ مع من أشاركها؟ كيف؟